فصل: شروط من يجوز تقليده

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


تقبّل

التّعريف

1 - التّقبّل مصدر تقبّل أي تكفّل، ومن معانيه في اللّغة الالتزام والتّعهّد، يقال‏:‏ تقبّلت العمل من صاحبه إذا التزمته بعقد‏.‏ ومنه القبالة بالفتح اسم المكتوب من ذلك لما يلتزمه الإنسان من عمل ودين وغير ذلك، وبالكسر‏:‏ العمل، والقبيل الكفيل، والقبالة الكفالة‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للتّقبّل عن المعنى اللّغويّ‏.‏

واستعمل التّقبّل في الاصطلاح أيضاً بمعنى التّعهّد والالتزام، فقد ورد في المجلّة أنّ‏:‏ ‏"‏ التّقبّل تعهّد العمل والتزامه ‏"‏‏.‏

وأطلقه الفقهاء غالباً على نوع من أنواع الشّركة فيما إذا اتّفق اثنان فأكثر على أن يتقبّلا عملاً من الخياطة أو القصارة أو غيرهما، ويكون الكسب بينهما على ما شرطا‏.‏

وهذه التّسمية شائعة في كتب الحنفيّة أكثر من المذاهب الأخرى، وتسمّى أيضا شركة الأعمال وشركة الصّنائع وشركة الأبدان‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الكفالة‏:‏

2 - الكفالة في اللّغة‏:‏ الضّمّ والتّحمّل والالتزام، وفي الاصطلاح ضمّ ذمّة إلى ذمّة أخرى في المطالبة بشيء من نفس أو دين أو عين‏.‏ فالعلاقة بين الكفالة والتّقبّل أنّ التّقبّل يتضمّن الكفالة، لكنّها قد تكون بالأموال بخلاف التّقبّل الّذي يخصّ الأعمال فقط‏.‏

ب - الالتزام‏:‏

3 - الالتزام مصدر التزم، وأصله من اللّزوم بمعنى الثّبوت والدّوام، يقال‏:‏ ألزمته المال والعمل وغيره فالتزمه‏.‏ فالالتزام بالشّيء قبوله واعتناقه سواء أكان بإرادة واحدة أم بإرادتين، على عمل أو غيره وعلى ذلك فهو أعمّ من التّقبّل والكفالة ‏(‏ر‏:‏ التزام‏)‏‏.‏

الحكم الإجماليّ

4 - جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - على جواز شركة التّقبّل ‏"‏ شركة الصّنائع ‏"‏ في الأعمال الّتي تصلح فيها الوكالة، لأنّها قسم من شركة العقد فيعتبر كلّ واحد من الشّريكين وكيلا للآخر‏.‏ وما يتقبّله أحدهما من العمل يصير في ضمانهما يطالبان به، ويلزمهما عمله، ولو مرض أحدهما أو سافر أو امتنع عمداً بلا عذر فالآخر مطالب بالعمل، والكسب بينهما على ما شرطاه، لأنّ العمل مضمون عليهما‏.‏ كما أنّ لكلّ واحد منهما المطالبة بالأجرة، فتبرأ ذمّة من يدفع الأجرة لأحدهما، وإن تلفت الأجرة في يد أحدهما من غير تفريط فهي من ضمانهما، تضيع عليهما معا‏.‏

5 - واستدلّوا لجوازها بأنّ المقصود منها تحصيل المال بالتّوكيل، فكما أنّ الشّريكين قد يستحقّان الرّبح بالاشتراك من أحدهما بالعمل ومن الآخر بالمال كما في المضاربة، وقد يستحقّانه بالمال فقط كما في سائر الشّركات، فكذا يجوز أن يستحقّاه بالعمل فقط‏.‏

ولأنّ المسلمين في سائر الأمصار يعقدون هذه الشّركة ويتعاملون بها‏.‏

وقد روي «عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ اشتركت أنا وسعد وعمّار يوم بدر، فلم أجئ أنا وعمّار بشيء، وجاء سعد بأسيرين، ومثل هذا لا يخفى على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد أقرّهم عليه»‏.‏

6 - ولا يشترط لصحّة التّقبّل وشركة الأعمال اتّحاد المكان عند من يجوّزونها‏:‏ وهم جمهور الفقهاء، لأنّ المعنى المجوّز لشركة التّقبّل من كون المقصود تحصيل الرّبح لا يختلف بين كون العمل في دكاكين أو دكّان‏.‏

كما لا يشترط التّساوي في الرّبح أو العمل، ولا اتّحاد الصّنعة عند الحنفيّة والحنابلة‏.‏ فيصحّ بالمناصفة أو الثّلث والثّلثين أو غير ذلك، كما يصحّ أن يعمل أحدهما أكثر من الآخر، اتّفقت صنعتهما كخيّاطين، أو اختلفت كخيّاط وقصّار أو صبّاغ، وكاشتراك حدّاد ونجّار وخيّاط، لأنّهم اشتركوا في مكسب مباح فصحّ كما لو اتّفقت الصّنائع‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ جازت الشّركة بالعمل إن اتّحد، كخيّاطين، أو تلازم بأن توقّف عمل أحدهما على عمل الآخر، كنسج وإصلاح غزل بتهيئة للنّسج، وكأن يفوّض أحدهما لطلب اللّؤلؤ، والثّاني يمسك عليه ويجذب، وبشرط أن يتساويا في العمل بأن يأخذ كلّ واحد بقدر عمله من الغلّة، أو يتقاربا في العمل وحصل التّعاون بينهما‏.‏

7 - وكما تصحّ هذه الشّركة في الصّنائع ونحوها، تصحّ كذلك في تملّك المباحات من الاحتشاش، والاصطياد، والاحتطاب، والتّلصّص على دار الحرب، وسائر المباحات، وهذا عند المالكيّة والحنابلة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا يصحّ التّقبّل وشركة الأعمال في المباحات من الصّيد والحطب، وما يكون في الجبال من الثّمار، وما أشبه ذلك، لعدم صحّة الوكالة فيها، لأنّ سبب ثبوت الملك في المباحات الأخذ والاستيلاء، فإن تشاركا فأخذ كلّ واحد منهما شيئا من ذلك منفرداً كان المأخوذ ملكا له خاصّة‏.‏

8 - هذا، وصرّح الشّافعيّة ببطلان شركة الأبدان مطلقا، وذلك لعدم المال فيها، ولما فيها من الغرر، إذ لا يدري الشّريك أنّ صاحبه يكسب أم لا، ولأنّ كلّ واحد منهما متميّز ببدنه ومنافعه، فيختصّ بفوائده، كما لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميّزة ويكون الدّرّ والنّسل بينهما‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏شركة‏)‏‏.‏

تقبيل

التّعريف

1 - التّقبيل في اللّغة‏:‏ مصدر قبّل، والاسم منه القبلة وهي اللّثمة، والجمع القبل‏.‏ يقال قبّلها تقبيلاً أي لثمها وتقبّلت العمل من صاحبه إذا التزمته بعقد‏.‏

والقبالة‏:‏ اسم المكتوب من ذلك لما يلتزمه الإنسان من عمل ودين وغير ذلك‏.‏

قال الزّمخشريّ‏:‏ كلّ من تقبّل بشيء مقاطعة وكتب عليه بذلك كتاباً، فالكتاب الّذي كتب هو القبالة ‏"‏ بالفتح ‏"‏ والعمل قبالة ‏"‏ بالكسر ‏"‏‏.‏

وتقبيل الخراج‏:‏ هو أن يدفع السّلطان أو نائبه، صقعا، أو بلدة، أو قرية، إلى رجل مدّة سنة، مقاطعة بمال معلوم، يؤدّيه إليه عن خارج أرضها، أو جزية رءوس أهلها إن كانوا أهل الذّمّة‏.‏ وتفصيل الكلام في التّقبيل بهذا الإطلاق ينظر في مصطلح ‏"‏ خراج، وقبالة ‏"‏‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذه المعاني‏.‏

أقسام التّقبيل

2 - ذكر بعض الفقهاء أنّ التّقبيل على خمسة أوجه‏:‏ قبلة المودّة للولد على الخدّ، وقبلة الرّحمة لوالديه على الرّأس، وقبلة الشّفقة لأخيه على الجبهة، وقبلة الشّهوة لامرأته أو أمته على الفم، وقبلة التّحيّة للمؤمنين على اليد‏.‏ وزاد بعضهم قبلة الدّيانة للحجر الأسود‏.‏ وفيما يلي أحكام التّقبيل بأنواعه المختلفة، وما ينشأ عنه من آثار‏:‏

أحكام التّقبيل

أوّلاً‏:‏ التّقبيل المشروع

أ - تقبيل الحجر الأسود‏:‏

3 - يسنّ تقبيل الحجر الأسود للحاجّ والمعتمر في حالة الطّواف لمن يقدر عند عامّة الفقهاء، لما روى ابن عمر «أنّ عمر رضي الله عنه قبّل الحجر ثمّ قال‏:‏ واللّه لقد علمت أنّك حجر ولولا أنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك»‏.‏

فإن عجز عن التّقبيل اقتصر على الاستلام باليد ثمّ قبّلها، وإن عجز عن الاستلام باليد وكان في يده شيء يمكن أن يستلم الحجر استلمه وقبّله، وهذا عند جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه استلم الحجر الأسود باليد ثمّ قبّل يده»، ولما روي عن ابن عبّاس قال‏:‏ «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الرّكن بمحجن معه ويقبّل المحجن»‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن لم يقدر أن يقبّله لمسه بيده أو بعود ثمّ وضعه على فيه من غير تقبيل‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ طواف، والحجر الأسود ‏"‏‏.‏

ب - تقبيل الرّكن اليمانيّ‏:‏

4 - يندب استلام الرّكن اليمانيّ في الطّواف بلا خلاف بين الفقهاء لما روي عن ابن عمر قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الرّكن اليمانيّ والحجر في كلّ طواف»‏.‏

أمّا تقبيله فقال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وهو الصّحيح عند الحنابلة‏:‏ لا يقبّله‏:‏ لكنّ الشّافعيّة قالوا‏:‏ يستلمه باليد ويقبّل اليد بعد استلامه، وقال المالكيّة‏:‏ يلمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل‏.‏

وقال محمّد من الحنفيّة - وهو قول الخرقيّ من الحنابلة‏:‏ يقبّله إن تمكّن من ذلك‏.‏

هذا وذكر الحنفيّة أنّ تقبيل عتبة الكعبة أيضا من قبلة الدّيانة‏.‏

ثانياً‏:‏ التّقبيل الممنوع

أ - تقبيل الأجنبيّة‏:‏

5 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز لمس وتقبيل المرأة الأجنبيّة ولو للخطبة‏.‏

وتفصيل هذه المسائل في مصطلح‏:‏ ‏(‏خطبة ونكاح‏)‏‏.‏

ب - تقبيل الأمرد‏:‏

6 - الأمرد إذا لم يكن صبيح الوجه فحكمه حكم الرّجال في جواز تقبيله للوداع والشّفقة دون الشّهوة، أمّا إذا كان صبيح الوجه يشتهى فيأخذ حكم النّساء وإن اتّحد الجنس، فتحرم مصافحته وتقبيله ومعانقته بقصد التّلذّذ عند عامّة الفقهاء‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏أمرد‏)‏‏.‏

ج - تقبيل الرّجل للرّجل، والمرأة للمرأة‏:‏

7 - لا يجوز للرّجل تقبيل فم الرّجل أو يده أو شيء منه، وكذا تقبيل المرأة للمرأة، والمعانقة ومماسّة الأبدان، ونحوها، وذلك كلّه إذا كان على وجه الشّهوة، وهذا بلا خلاف بين الفقهاء لما روي «عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه‏:‏ نهى عن المكامعة وهي‏:‏ المعانقة، وعن المعاكمة وهي‏:‏ التّقبيل»‏.‏ أمّا إذا كان ذلك على غير الفم، وعلى وجه البرّ والكرامة، أو لأجل الشّفقة عند اللّقاء والوداع، فلا بأس به كما يأتي‏.‏

د - تقبيل يد الظّالم‏:‏

8 - صرّح الفقهاء بعدم جواز تقبيل يد الظّالم، وقالوا‏:‏ إنّه معصية إلا أن يكون عند خوف، قال صاحب الدّرّ‏:‏ لا رخصة في تقبيل اليد لغير عالم وعادل ، ويكره ما يفعله الجهّال من تقبيل يد نفسه إذا لقي غيره، وكذلك تقبيل يد صاحبه عند اللّقاء إذا لم يكن صاحبه عالما ولا عادلا، ولا قصد تعظيم إسلامه ولا إكرامه ‏.‏

هـ – تقبيل الأرض بين يدي العلماء والعظماء‏:‏

9 - تقبيل الأرض بين يدي العلماء والعظماء حرام، والفاعل والرّاضي به آثمان، لأنّه يشبه عبادة الوثن، وهل يكفر‏؟‏ إن على وجه العبادة والتّعظيم كفر، وإن على وجه التّحيّة لا، وصار آثما مرتكباً للكبيرة، كما صرّح به صاحب الدّرّ‏.‏

و - التّقبيل في الاعتكاف والصّيام‏:‏

10 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز تقبيل أحد الزّوجين الآخر في حالة الاعتكاف إن كان بشهوة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المَسَاجِدِ‏}‏، كما اتّفقوا على كراهة التّقبيل في الصّيام لمن يخاف على نفسه المفسد من الإنزال والجماع، بل صرّح المالكيّة بالحرمة في حالة خوف المفسد والعلم بعدم السّلامة‏.‏

وهل يبطل الاعتكاف بالتّقبيل‏؟‏ فيه خلاف وتفصيل يأتي في بيان آثار التّقبيل‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّقبيل المباح

أ - تقبيل المبرّة والإكرام، وتقبيل المودّة والشّفقة‏:‏

11 - يجوز تقبيل يد العالم الورع والسّلطان العادل، وتقبيل يد الوالدين، والأستاذ، وكلّ من يستحقّ التّعظيم والإكرام، كما يجوز تقبيل الرّأس والجبهة وبين العينين، ولكن كلّ ذلك إذا كان على وجه المبرّة والإكرام، أو الشّفقة عند اللّقاء والوداع، وتديّناً واحتراماً مع أمن الشّهوة‏.‏ وقد ثبت أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم عانق جعفرا حين قدم من الحبشة وقبّل بين عينيه» وروي «عن ابن عمر رضي الله عنه أنّه كان في سريّة من سرايا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكر قصّة قال‏:‏ فدنونا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقبّلنا يده»‏.‏ قال ابن بطّال‏:‏ أنكر مالك تقبيل اليد وأنكر ما روي فيه‏.‏

قال الأبهريّ‏:‏ وإنّما كرهه مالك إذا كان على وجه التّعظيم والتّكبّر‏.‏

وأمّا إذا كان على وجه القربة إلى اللّه لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإنّ ذلك جائز‏.‏

كذلك يجوز بل يسنّ تقبيل الولد للمودّة على الرّأس والجبهة والخدّ، لحديث أبي هريرة قال‏:‏ «قبّل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حسين بن عليّ، فقال الأقرع بن حابس‏:‏ إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا، فقال‏:‏ من لا يرحم لا يرحم»‏.‏

وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أوأملك لك أن نزع اللّه من قلبك الرّحمة‏؟‏»‏.‏

وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «ما رأيت أحداً أشبه سمتا وهديا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من فاطمة ابنته، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها يقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت له فتقبّله وتجلسه في مجلسها»‏.‏

ب - تقبيل الميّت‏:‏

12 - يجوز لأهل الميّت وأقربائه وأصدقائه تقبيل وجهه، لما روت عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون وهو ميّت، وهو يبكي أو عيناه تذرفان» وروي كذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «أقبل أبو بكر فتيمّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مسجّى ببرد حبرة، فكشف عنه وجهه، ثمّ أكبّ عليه فقبّله، ثمّ بكى، فقال‏:‏ بأبي أنت يا رسول اللّه لا يجمع اللّه عليك موتتين»‏.‏

ج - تقبيل المصحف‏:‏

13 - ذكر الحنفيّة‏:‏ وهو المشهور عند الحنابلة - جواز تقبيل المصحف تكريماً له، وهو المذهب عند الحنابلة، وروي عن أحمد استحبابه، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه‏:‏ كان يأخذ المصحف كلّ غداة ويقبّله، ويقول‏:‏ عهد ربّي ومنشور ربّي عزّ وجلّ، وكان عثمان رضي الله عنه يقبّل المصحف ويمسحه على وجهه‏.‏ وقال النّوويّ في التّبيان‏:‏ روينا في مسند الدّارميّ بإسناد صحيح عن ابن أبي مليكة أنّ عكرمة بن أبي جهل كان يضع المصحف على وجهه ويقول‏:‏ كتاب ربّي كتاب ربّي‏.‏ ونقل صاحب الدّرّ عن القنية‏:‏ وقيل‏:‏ إنّ تقبيل المصحف بدعة، وردّه بما تقدّم نقله عن عمر وعثمان‏.‏

وروي كذلك عن أحمد‏:‏ التّوقّف في تقبيل المصحف، وفي جعله على عينيه، وإن كان فيه رفعه وإكرامه، لأنّ ما طريقه التّقرّب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحبّ فعله، وإن كان فيه تعظيم إلا بتوقيف، ولهذا قال عمر عن الحجر‏:‏ «لولا أنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك»‏.‏ ولم نعثر في كتب المالكيّة على حكم لهذه المسألة‏.‏

د - تقبيل الخبز والطّعام‏:‏

14 - صرّح الشّافعيّة بجواز تقبيل الخبز، وقالوا‏:‏ إنّه بدعة مباحة أو حسنة، لأنّه لا دليل على التّحريم ولا الكراهة، لأنّ المكروه ما ورد عنه نهي، أو كان فيه خلاف قويّ، ولم يرد في ذلك نهي، فإن قصد بذلك إكرامه لأجل الأحاديث الواردة في إكرامه فحسن، ودوسه مكروه كراهة شديدة، بل مجرّد إلقائه في الأرض من غير دوس مكروه‏.‏

وقال صاحب الدّرّ من الحنفيّة مؤيّداً قول الشّافعيّة في جواز تقبيل الخبز‏:‏ وقواعدنا لا تأباه‏.‏

أمّا الحنابلة فقالوا‏:‏ لا يشرع تقبيل الخبز ولا الجمادات إلا ما استثناه الشّرع‏.‏

آثار التّقبيل

أثر التّقبيل في الوضوء‏:‏

15 - صرّح الحنفيّة - وهو رواية عند الحنابلة - بعدم انتقاض الوضوء بمسّ الزّوجة ولا بتقبيلها، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت ‏:‏ «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثمّ صلّى ولم يتوضّأ»‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ المراد باللّمس في الآية‏:‏ ‏{‏أوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ‏}‏ الجماع كما فسّرها ابن عبّاس رضي الله عنه، وقد تأكّد ذلك بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الشّافعيّة - وهو رواية أخرى عند الحنابلة - إنّ اللّمس والتّقبيل ناقضان للوضوء مطلقاً لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ‏}‏، ولأنّه مظنّة الالتذاذ المثير للشّهوة، ومثله في ذلك باقي صور التقاء البشرتين بين الرّجل والمرأة، ولا فرق في ذلك بين اللامس والملموس، وزاد الشّافعيّة‏:‏ ولو كان الممسوس ميّتاً‏.‏

والمشهور من مذهب أحمد أنّه يجب الوضوء على من قبّل لشهوة، ولا يجب على من قبّل لرحمة‏.‏ ولا فرق عنده بين الأجنبيّة والمحرم والصّغيرة الّتي تشتهى - أي ذات سبع سنين فأكثر - والكبيرة، لعموم النّصّ، خلافاً للشّافعيّة حيث قالوا بعدم النّقض بلمس ذوات المحارم بنسب أو رضاع أو مصاهرة في الأظهر، لأنّها ليست محلاً للشّهوة‏.‏

أمّا المالكيّة فقد فصّلوا في ذلك فقالوا‏:‏ تقبيل فم من يلتذّ صاحبه به عادة ناقض لوضوئهما مطلقاً، وإن لم يقصد اللّذّة أو لم يجدها، وإن كان بكره أو استغفال، لأنّ القبلة على الفم لا تنفكّ عن اللّذّة غالباً، والنّادر لا حكم له‏.‏

أمّا تقبيل سائر الأعضاء، فإن قصد به لذّة أو وجدها بدون القصد ينقضه وإلا فلا‏.‏

وهذا كلّه إذا كانا بالغين وإلا انتقض وضوء البالغ منهما إذا كان تقبيله لمن يشتهى عادة‏.‏ والمعتبر عادة النّاس لا عادة المقبّل والمقبّل، قال الدّسوقيّ‏:‏ فعلى هذا لو قبّل شيخ شيخة انتقض وضوء كلّ منهما، لأنّ عادة المشايخ اللّذّة بالنّساء الكبار‏.‏

وإذا كان التّقبيل لوداع عند فراق أو لرحمة كتقبيل المريض للشّفقة فلا نقض‏.‏

أثر التّقبيل في الصّلاة

16 - التّقبيل مبطل للصّلاة عند من يقول بنقض الوضوء به، لأنّ الطّهارة شرط لصحّة الصّلاة عند عامّة الفقهاء، فإذا انتقض الوضوء بطلت الصّلاة‏.‏

كذلك تفسد الصّلاة بالتّقبيل عند الحنفيّة الّذين ذهبوا إلى عدم نقض الوضوء به، فإنّهم قالوا في التّقبيل بين الزّوجين‏:‏ لو مسّها بشهوة أو قبّلها ولو بغير شهوة، أو مصّ صبيّ ثديها وخرج اللّبن تفسد صلاتهما‏.‏

لكنّهم صرّحوا بأنّه لو قبّلته وهو في الصّلاة ولم يشتهها لا تفسد صلاته‏.‏

أثر التّقبيل على الصّيام

17 - يكره للصّائم تقبيل الزّوجة إن لم يأمن على نفسه وقوع مفسد من الإنزال والجماع، لما روي أنّ عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ «كنّا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء شابّ فقال يا رسول اللّه - أقبّل وأنا صائم‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ فجاء شيخ فقال‏:‏ أقبّل وأنا صائم‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض‏؟‏ إنّ الشّيخ يملك نفسه»‏.‏ ولأنّه إذا لم يأمن المفسد ربّما وقع في الجماع فيفسد صومه‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

ومحلّ الكراهة إذا كانت القبلة بقصد اللّذّة لا إن كان بدون قصدها، كأن تكون بقصد وداع أو رحمة فلا كراهة‏.‏

وإذا أمن على نفسه وقوع مفسد فلا بأس بالتّقبيل عند جمهور الفقهاء، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبّل ويباشر وهو صائم»‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ تكره القبلة بقصد اللّذّة للصّائم لو علمت السّلامة من خروج منيّ أو مذي، وإن لم يعلم السّلامة حرمت‏.‏ واتّفق الفقهاء على أنّ التّقبيل ولو كان بقصد اللّذّة لا يفطر الصّائم ما لم يسبّب الإنزال، أمّا إذا قبّل وأنزل بطل صومه اتّفاقاً بين المذاهب‏.‏

وفي وجوب الكفّارة أو عدمه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏كفّارة‏)‏‏.‏

أثر التّقبيل في الاعتكاف

18 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ الحنفيّة والحنابلة، وهو أظهر الأقوال عند الشّافعيّة، إلى أنّه يبطل الاعتكاف بالتّقبيل واللّمس إذا أنزل، لأنّه بالإنزال صار التّقبيل في معنى الجماع‏.‏

أمّا إذا لم ينزل فلا يبطل الاعتكاف بالتّقبيل عند الحنفيّة والحنابلة، وفي الأظهر عند الشّافعيّة، سواء أكان بشهوة أم بدونها، كما لا يبطل به الصّوم، لعدم معنى الجماع، إلا أنّه حرام إن كان بشهوة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المَسَاجِدِ‏}‏‏.‏ وإن كان بغير شهوة كالتّقبيل على سبيل الشّفقة والاحترام فلا بأس به، كغسل المرأة رأس زوجها المعتكف، وترجيل شعره‏.‏

وقال المالكيّة - وهو القول الثّاني عند الشّافعيّة‏:‏ إذا قبّل وقصد اللّذّة أو لمس أو باشر بقصد اللّذّة أو وجدها بطل الاعتكاف، أمّا لو قبّل صغيرة لا تشتهى أو قبّل زوجته لوداع أو لرحمة ولم يقصد اللّذّة ولا وجدها لم يبطل‏.‏

وهذا إذا كان التّقبيل على غير الفم‏.‏ أمّا القبلة على الفم فتبطل الاعتكاف مطلقاً، ولا تشترط فيها الشّهوة عند المالكيّة، لأنّه يبطله من مقدّمات الوطء ما يبطل الوضوء‏.‏ والقول الثّالث للشّافعيّة‏:‏ إنّ التّقبيل لا يبطل الاعتكاف مطلقاً كالحجّ، لكنّه حرام على كلّ قول‏.‏

أثر التّقبيل في الحجّ

19 - يحرم على المحرم اللّمس والتّقبيل بشهوة، ويجب على من فعل شيئاً من ذلك الدّم، سواء أنزل أم لم ينزل‏؟‏، لكنّه لا يفسد حجّه عند جمهور الفقهاء‏:‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، خلافاً للمالكيّة حيث قالوا بفساد الحجّ إن أنزل، وإلا فعليه بدنة‏.‏

أمّا القبلة بغير شهوة بأن كانت لوداع أو لرحمة أو بقصد تحيّة القادم من السّفر فلا تفسد الحجّ، ولا فدية فيها بغير خلاف بين الفقهاء‏.‏ وتفصيله في مصطلحي‏:‏ ‏(‏إحرام وحجّ‏)‏‏.‏

أثر التّقبيل في الرّجعة

20 - اتّفق الفقهاء على أنّ اللّمس والتّقبيل بغير شهوة وبغير نيّة الرّجعة لا يعتبر رجعة‏.‏ واختلفوا فيما إذا كان التّقبيل بشهوة، فقال الحنفيّة‏:‏ تصحّ الرّجعة بالوطء، واللّمس بشهوة، والتّقبيل بشهوة على أيّ موضع كان فماً، أو خدّاً أو ذقناً، أو جبهة، أو رأساً، ولو قبّلها اختلاساً، أو كان الزّوج نائماً، أو مكرهاً، أو مجنوناً، أو معتوهاً، إن صدّقها الزّوج‏.‏ ولا فرق بين كون التّقبيل والمسّ والنّظر بشهوة منه أو منها بشرط أن يصدّقها، أمّا إذا ادّعته وأنكره فلا تثبت الرّجعة‏.‏

واشترط المالكيّة في الرّجعة النّيّة، فالتّقبيل للمرأة المطلّقة رجعيّا رجعة إذا قارنه نيّة الرّجعة، ولا تصحّ الرّجعة بالفعل دون نيّة، ولو بأقوى الأفعال كالوطء‏.‏

ولا تحصل الرّجعة عند الشّافعيّة - وهو ظاهر كلام الخرقيّ من الحنابلة - بالفعل كالوطء ومقدّماته من اللّمس والتّقبيل، لأنّ ذلك حرم بالطّلاق، ومقصود الرّجعة حلّه، فلا تحصل إلا بالقول‏.‏ وفي الرّواية الثّانية عند الحنابلة تحصل الرّجعة بالوطء ولو بغير نيّة‏.‏

أمّا لو قبّلها أو لمسها بشهوة فالمنصوص عن أحمد أنّه ليس برجعة، ويعتبر رجعة في وجه عند بعض الحنابلة‏.‏

أثر التّقبيل في الظّهار

21 - الظّهار هو‏:‏ أن يشبّه الزّوج زوجته بمحرّم عليه تأبيداً‏.‏

فإذا ظاهر الزّوج من زوجته، كأن يقول أنت عليّ كظهر أمّي يحرم عليه وطؤها ودواعيه من القبلة واللّمس بشهوة قبل الكفّارة عند الحنفيّة والمالكيّة - وهي رواية عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ ذلك يدعو إلى الوطء ويفضي إليه، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى منع التّماسّ قبل الكفّارة حيث قال‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَمَاسَّا‏}‏، والتّماسّ شامل للوطء ودواعيه، فيحرم عليه الكلّ بالنّصّ‏.‏

وروي عن محمّد من الحنفيّة جواز التّقبيل للشّفقة، كأن قدم من سفر مثلاً‏.‏

والقول الثّاني للشّافعيّة - وهي الرّواية الثّانية عن أحمد، أنّه لا بأس بالتّلذّذ بما دون الجماع من القبلة واللّمس والمباشرة فيما دون الفرج‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ ظهار‏)‏‏.‏

أثر التّقبيل في الإيلاء

22 - الإيلاء‏:‏ حلف الزّوج بالامتناع عن وطئه زوجته مدّة أربعة أشهر أو أكثر‏.‏

واتّفق الفقهاء على أنّ الحلف بالامتناع عن التّقبيل واللّمس والمباشرة فيما دون الفرج لا يعتبر إيلاء‏.‏ واتّفقوا أيضاً على أنّ الفيء أي للرّجوع عن الإيلاء لا يكون إلا بالجماع في الفرج، فلا ينحلّ الإيلاء بوطء في غير الفرج، ولا بالتّقبيل أو اللّمس والمباشرة بشهوة، لأنّ حقّها هو الجماع في القبل، فلا يحصل الرّجوع بدونه، ولأنّه هو المحلوف على تركه، ولا يزول الضّرر إلا بالإتيان به‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إيلاء‏)‏‏.‏

أثر التّقبيل في حرمة المصاهرة

23 - التّقبيل إذا لم يكن بشهوة لا يؤثّر في حرمة المصاهرة، فمن قبّل امرأة بغير شهوة فله أن يتزوّج ببنتها أو أمّها، ويجوز لها الزّواج بأصوله أو فروعه، وكذلك من قبّل أمّ امرأته بغير شهوة لا تحرم عليه امرأته‏.‏ وهذا متّفق عليه، إلا إذا كانت القبلة على الفم، فخالف في ذلك الحنفيّة، وألحق بعضهم الخدّ بالفم‏.‏

أمّا التّقبيل أو المسّ بشهوة فاختلفوا في انتشار الحرمة بهما، فقال جمهور الفقهاء‏:‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ المباشرة في غير الفرج والتّقبيل ولو بشهوة لا يحرّم على المقبّل أصول من يقبّلها ولا فروعها، زوجة كانت أم أجنبيّة، لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ‏}‏‏.‏ وصرّح الحنفيّة بأنّ التّقبيل واللّمس بشهوة يوجب حرمة المصاهرة، فمن مسّ أو قبّل امرأة بشهوة لا تحلّ له أصولها ولا فروعها، وحرمت عليها أصوله وفروعه‏.‏ ومن قبّل أمّ امرأته بشهوة حرمت عليه امرأته‏.‏

24 - وإذا أقرّ بالتّقبيل وأنكر الشّهوة، قيل‏:‏ لا يصدّق، لأنّه لا يكون إلا عن شهوة، فلا يقبل إنكاره إلا أن يظهر خلافه‏.‏ وقيل‏:‏ يصدّق، وقيل‏:‏ بالتّفصيل بين كونه على الرّأس والجبهة والخدّ فيصدّق، أو على الفم فلا، وهذا هو الأرجح‏.‏

واستدلّ الحنفيّة على انتشار الحرمة بالمسّ والتّقبيل بشهوة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤكُمْ‏}‏ قالوا‏:‏ المراد من النّكاح الوطء، والتّقبيل بشهوة داع إلى الوطء، فيقام مقامه احتياطا للحرمة‏.‏ وبما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من نظر إلى فرج امرأة بشهوة أو لمسها بشهوة حرمت عليه أمّها وابنتها، وحرمت على ابنه وأبيه»‏.‏

هذا ولا تنتشر الحرمة بالتّقبيل ولو بشهوة بين الإخوة والأخوات، فلو قبّل أخت امرأته ولو بشهوة لا تحرم عليه امرأته اتّفاقاً‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏نكاح‏)‏‏.‏

تقرير

التّعريف

1 - التّقرير في اللّغة‏:‏ مصدر قرّر، يقال قرّر الشّيء في المكان‏:‏ ثبّته، وقرّر الشّيء في محلّه‏:‏ تركه قارّاً، وقرّر فلاناً بالذّنب‏:‏ حمله على الاعتراف به، وقرّر المسألة أو الرّأي وضّحه وحقّقه‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ، وهو عند الأصوليّين - كما ذكر في أقسام السّنّة‏:‏ سكوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم - عن إنكار قول قيل بين يديه أو في عصره وعمل به، أو سكوته عن إنكار فعل حين فعل بين يديه أو في عصره وعلم به‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإقرار‏:‏

2 - الإقرار لغة‏:‏ الإذعان للحقّ والاعتراف به‏.‏ يقال‏:‏ أقرّ بالحقّ أي اعترف به‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ إخبار عن ثبوت حقّ للغير على نفسه، وهو بذلك قد يكون أثرا للتّقرير‏.‏

ب - السّكوت‏:‏

3 - السّكوت‏:‏ ترك الكلام والسّكوت عن الأمر عدم الإنكار، والصّلة بينه وبين التّقرير هي أنّ السّكوت عند الفقهاء قد يكون تقريرا وقد لا يكون‏.‏

ومن القواعد الفقهيّة‏:‏ لا ينسب لساكت قول، لكنّ هذه القاعدة استثني بها مسائل عديدة اعتبر السّكوت فيها تقريراً ومن ذلك‏:‏ سكوت البكر عند استئذانها في النّكاح‏.‏

وقبول التّهنئة بالمولود والسّكوت على ذلك يعتبر إقرارا بالنّسب‏.‏ قال الزّركشيّ‏:‏ السّكوت بمجرّده ينزّل منزلة التّصريح بالنّطق في حقّ من تجب له العصمة، ولهذا كان تقريره صلى الله عليه وسلم من شرعه، وكان الإجماع السّكوتيّ حجّة عند كثيرين‏.‏ أمّا غير المعصوم فالأصل أنّه لا ينزّل منزلة نطقه إلا إذا قامت قرائن تدلّ على الرّضا فينزّل منزلة النّطق‏.‏

ج - الإجازة‏:‏

4 - من معاني الإجازة‏:‏ الإنفاذ، يقال‏:‏ أجاز الشّيء إذا أنفذه وجوّز له ما صنع وأجاز له‏:‏ أي سوّغ له ذلك وأجزت العقد‏:‏ جعلته جائزاً نافذاً‏.‏ وهي بهذا المعنى تكون كالتّقرير للأمر الّذي حدث، ومن ذلك إجازة المالك لتصرّف الفضوليّ عند الحنفيّة والمالكيّة‏.‏

الحكم الإجمالي

أوّلاً - التّقرير عند الأصوليّين‏:‏

5 - ذكر الأصوليّون التّقرير باعتباره قسما من أقسام السّنّة، وصورته‏:‏ أن يسكت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إنكار قول قيل بين يديه أو في عصره وعلم به أو سكت عن إنكار فعل فعل بين يديه أو في عصره وعلم به‏.‏

ويلحق بذلك‏:‏ قول الصّحابيّ‏:‏ كنّا نفعل كذا، وكانوا يفعلون كذا وأضافه إلى عصر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان ممّا لا يخفى مثله عليه‏.‏

6 - والتّقرير حجّة ويدلّ على الجواز ورفع الحرج، لكن ذلك لا بدّ وأن يكون مع قدرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الإنكار، وكون المقرّر منقادا للشّرع، وكون الأمر المقرّر ثابتا لم يسبق النّهي عنه‏.‏ لأنّه لو لم يكن جائزاً لما سكت عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولما يترتّب عليه من تأخير البيان‏.‏

وذهبت طائفة إلى أنّ التّقرير لا يدلّ على الجواز لأنّ السّكوت وعدم الإنكار يحتمل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سكت لعلمه بأنّه لم يبلغه التّحريم فلا يكون الفعل إذ ذاك حراماً، ويحتمل أنّه سكت عنه لأنّ الإنكار لم ينجح فيه وعلم أنّ إنكاره ثانياً لا يفيد فلم يعاوده، وبذلك لا يصلح التّقرير دليلاً على الجواز والنّسخ‏.‏

وفي الموضوع تفصيل ينظر في الملحق الأصوليّ‏.‏

ثانياً - التّقرير عند الفقهاء‏:‏

7 - يأتي التّقرير عند الفقهاء بمعان ثلاثة‏:‏

الأوّل‏:‏ بمعنى تثبيت حقّ المقرّر في شيء وتأكيده‏:‏ أورد الحنفيّة التّقرير بهذا المعنى في مسألة طلب الشّفعة، إذ أنّهم يقسمون طلب الشّفعة إلى ثلاثة أقسام‏:‏

طلب المواثبة، وطلب التّقرير، وطلب الخصومة والملك، فطلب المواثبة هو طلب الشّفعة في مجلس العلم بها، لبيان أنّه غير معرض عن الشّفعة والإشهاد ليس بشرط فيه‏.‏

وطلب التّقرير والإشهاد هو أن يشهد على طلبه عند البائع إن كان المبيع في يده، أو عند المبتاع إن كان البائع قد سلّمه المبيع أو عند العقار‏.‏ فإذا فعل ذلك استقرّت شفعته‏.‏

وهذا الطّلب يسمّى طلب التّقرير أو طلب الإشهاد، لأنّه بذلك قرّر حقّه وأكّده‏.‏

والشّفيع إنّما يحتاج إلى طلب التّقرير بعد طلب المواثبة إذا لم يمكنه الإشهاد عند طلب المواثبة‏.‏ أمّا إذا استطاع عند طلب المواثبة الإشهاد عند البائع أو المشتري أو العقار فذلك يكفيه ويقوم مقام الطّلبين، والإشهاد إنّما هو لإثبات الحقّ عند التّجاحد‏.‏

هذا وبقيّة المذاهب تذكر الإشهاد دون لفظ التّقرير، وفي اعتبار الإشهاد شرطاً لاستقرار الشّفعة أو غير شرط‏.‏ ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏إشهاد، وشفعة‏)‏‏.‏

الثّاني‏:‏ بمعنى استمرار الأمر الموجود وإبقائه على حاله، ومن أمثلة ذلك ما يأتي‏:‏

أ - في الشّركة‏:‏

8 - إذا مات أحد الشّريكين ولم يتعلّق بالتّركة دين ولا دية فللوارث الرّشيد الخيار بين القسمة وتقرير الشّركة، فإن كان على الميّت دين فليس للوارث تقرير الشّركة إلا بعد قضاء الدّين‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ شركة‏)‏‏.‏

ب - في القراض‏:‏

9 - إذا مات المالك وأراد الوارث الاستمرار على العقد، فإن كان المال ناضّا فلهما ذلك بأن يستأنفا عقدا بشرطه، قال النّوويّ‏:‏ وهل ينعقد بلفظ التّرك والتّقرير بأن يقول الوارث‏:‏ تركتك أو قرّرتك على ما كنت عليه‏؟‏ وجهان، أصحّهما نعم لفهم المعنى‏.‏

وإذا مات عامل المضاربة وأراد المالك تقرير وارث العامل مكانه فتقريره مضاربة مبتدأة لا تجوز إلا على نقد مضروب‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مضاربة ‏(‏قراض‏)‏‏.‏

ج - في القضاء‏:‏

10 - الأصل أنّه لا يجوز نقض حكم سابق إذا لم يخالف نصّاً أو إجماعاً أو قياساً جليّاً‏.‏ بل كان مجتهداً فيه، وهذا في الجملة‏.‏

لكن هل تقرير القاضي ما رفع إليه يعتبر حكماً لا يجوز نقضه‏؟‏

عقد ابن فرحون في تبصرته فصلا بعنوان ‏"‏ تقرير الحاكم ما رفع إليه ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ اختلف أهل المذهب - يعني المالكيّة - هل يكون تقرير الحاكم على الواقعة حكما بالواقع فيها أم لا‏؟‏ كما إذا زوّجت امرأة نفسها بغير إذن وليّها ورفع ذلك إلى قاض حنفيّ فأقرّه وأجازه ثمّ عزل، قال ابن القاسم ليس لغيره فسخه وإقراره عليه كالحكم به، واختاره ابن محرز، وهو ظاهر المدوّنة، يريد أنّ ذلك كالحكم فلا يعترضه قاض آخر، وقال عبد الملك‏:‏ ليس بحكم ولغيره فسخه، وهذا بخلاف ما لو رفع له فقال‏:‏ لا أجيز النّكاح بغير وليّ من غير أن يحكم بفسخه فهذه فتوى ولغيره الحكم في تلك الواقعة بما يراه‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏قضاء‏)‏‏.‏

الثّالث - التّقرير بمعنى طلب الإقرار من المتّهم وحمله على الاعتراف‏:‏

11 - للقاضي تقرير المدّعى عليه وذلك بأن يطلب القاضي منه الجواب إمّا بالإقرار أو بالإنكار‏.‏ وإقرار المكره لا يعمل به في الجملة‏.‏ لكنّ الفقهاء جعلوا من باب السّياسة الشّرعيّة مراعاة شواهد الحال وأوصاف المتّهم وقوّة التّهمة فأجازوا التّوصّل إلى الإقرار بالحقّ بما يراه الحاكم استناداً إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ كَانَ قَمِيصُه قُدَّ مِنْ دُبُرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وقد فعل ذلك «عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لمّا بعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو والزّبير بن العوّام في أثر المرأة الّتي حملت خطاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة، وفي الكتاب إخبار بما عزم عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من المسير إليهم، فأدرك عليّ والزّبير المرأة واستنزلاها والتمسا في رحلها الكتاب فلم يجدا شيئاً فقال لها عليّ رضي الله عنه‏:‏ أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك، فلمّا رأت الجدّ منه استخرجت الكتاب من قرون رأسها»‏.‏ لكنّهم اختلفوا هل يكون ذلك للقاضي أو لوالي المظالم‏؟‏

فعند الحنفيّة والمالكيّة وبعض أصحاب الإمام أحمد أنّه يجوز للقاضي وللوالي ضرب المتّهم ضرب تقرير لأنّ القاضي نائب عن الإمام في تنفيذ الأحكام‏.‏

وعند الشّافعيّة وبعض أصحاب الإمام أحمد يكون ذلك لوالي المظالم ولا يكون للقاضي، ووجه هذا القول أنّ الضّرب المشروع هو ضرب الحدود والتّعزير وذلك إنّما يكون بعد ثبوت أسبابها وتحقّقها‏.‏

12 - قال ابن القيّم‏:‏ الدّعاوى قسمان‏:‏ دعوى تهمة ودعوى غير تهمة‏.‏

فدعوى التّهمة أن يدّعي فعل محرّم على المطلوب يوجب عقوبته مثل قتل أو قطع طريق أو سرقة أو غير ذلك من العدوان الّذي يتعذّر إقامة البيّنة عليه في غالب الأحوال‏.‏

ودعوى غير التّهمة كأن يدّعي عقداً من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان أو غير ذلك وكلّ من القسمين قد يكون حدّاً محضاً كالشّرب والزّنى، وقد يكون حقّاً محضاً لآدميّ كالأموال، وقد يكون متضمّنا للأمرين كالسّرقة وقطع الطّريق‏.‏ فهذا القسم - أي دعوى غير التّهمة - إن أقام المدّعي حجّة شرعيّة وإلا فالقول قول المدّعى عليه مع يمينه لما روى مسلم في صحيحه عن ابن عبّاس قال‏:‏ «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكنّ اليمين على المدّعى عليه»‏.‏

13 - أمّا القسم الأوّل من الدّعاوى‏:‏ وهو دعاوى التّهم وهي دعوى الجناية والأفعال المحرّمة كدعوى القتل وقطع الطّريق والسّرقة والقذف والعدوان فهذا ينقسم المدّعى عليه فيه إلى ثلاثة أقسام فإنّ المتّهم إمّا أن يكون بريئا ليس من أهل تلك التّهمة، أو فاجراً من أهلها، أو مجهول الحال لا يعرف الوالي والحاكم‏.‏ فإن كان بريئاً لم تجز عقوبته اتّفاقاً‏.‏ واختلفوا في عقوبة المتّهم له على قولين‏:‏ أصحّهما أنّه يعاقب صيانة لتسلّط أهل الشّرّ والعدوان على أعراض البرآء‏.‏

قال مالك وأشهب رحمهما الله‏:‏ لا أدب على المدّعي إلا أن يقصد أذيّة المدّعى عليه وعيبه وشتمه فيؤدّب‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ يؤدّب قصد أذيّته أو لم يقصد‏.‏

14 - القسم الثّاني‏:‏ أن يكون المتّهم مجهول الحال لا يعرف ببرّ ولا فجور فهذا يحبس حتّى ينكشف حاله عند عامّة علماء الإسلام‏.‏

والمنصوص عليه عند أكثر الأئمّة أنّه يحبسه القاضي والوالي‏.‏ هكذا نصّ عليه مالك وأصحابه وهو منصوص الإمام أحمد ومحقّقي أصحابه وذكره أصحاب أبي حنيفة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ «قد حَبَس النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تهمة» قال أحمد‏:‏ وذلك حتّى يتبيّن للحاكم أمره‏.‏ ثمّ الحاكم قد يكون مشغولاً عن تعجيل الفصل وقد يكون عنده حكومات سابقة فيكون المطلوب محبوساً معوّقاً من حين يطلب إلى أن يفصل بينه وبين خصمه وهذا حبس بدون التّهمة ففي التّهمة أولى‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ الحبس في التّهم إنّما هو لوالي الحرب دون القاضي، وقد ذكر هذا طائفة من أصحاب الشّافعيّ كأبي عبد اللّه الزّبيريّ والماورديّ وغيرهما وطائفة من أصحاب أحمد من المصنّفين في أدب القضاة وغيرهم واختلفوا في مقدار الحبس في التّهمة هل هو مقدّر أو مرجعه إلى اجتهاد الوالي والحاكم‏؟‏ على قولين ذكرهما الماورديّ وأبو يعلى وغيرهما فقال الزّبيريّ‏:‏ هو مقدّر بشهر وقال الماورديّ‏:‏ غير مقدّر‏.‏

15 - القسم الثّالث‏:‏ أن يكون المتّهم معروفا بالفجور كالسّرقة وقطع الطّريق والقتل ونحو ذلك‏.‏ قال ابن القيّم‏:‏ ويسوغ ضرب هذا النّوع من المتّهمين كما «أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الزّبير بتعذيب المتّهم الّذي غيّب ماله حتّى أقرّ به في قصّة ابن أبي الحقيق»‏.‏

قال شيخنا‏:‏ واختلفوا فيه هل الّذي يضربه الوالي دون القاضي أو كلاهما أو لا يسوغ ضربه‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنّه يضربه الوالي أو القاضي هذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم منهم أشهب بن عبد العزيز قاضي مصر فإنّه قال‏:‏ يمتحن بالحبس والضّرب ويضرب بالسّوط مجرّدا‏.‏

والقول الثّاني‏:‏ أنّه يضربه الوالي دون القاضي وهذا قول بعض أصحاب الشّافعيّ وأحمد حكاه القاضيان‏:‏ أبو يعلى والماورديّ، ووجه هذا أنّ الضّرب المشروع هو ضرب الحدود والتّعزير وذلك إنّما يكون بعد إثبات أسبابها وتحقّقها‏.‏

والقول الثّالث‏:‏ أنّه لا يضرب‏.‏ وهذا قول أصبغ وكثير من الطّوائف الثّلاثة بل قول أكثرهم لكنّ حبس المتّهم عندهم أبلغ من حبس المجهول‏.‏

ثمّ قالت طائفة منهم عمر بن عبد العزيز ومطرّف وابن الماجشون أنّه يحبس حتّى يموت ونصّ عليه الإمام أحمد في المبتدع الّذي لم ينته عن بدعته أنّه يحبس حتّى يموت، وقال مالك‏:‏ لا يحبس إلى الموت‏.‏ والّذين جعلوا عقوبته للوالي دون القاضي قالوا‏:‏ ولاية أمير الحرب معتمدها المنع من الفساد في الأرض وقمع أهل الشّرّ والعدوان وذلك لا يتمّ إلا بالعقوبة للمتّهمين المعروفين بالإجرام بخلاف ولاية الحكم فإنّ مقصودها إيصال الحقوق إلى أربابها قال شيخنا‏:‏ وهذا القول هو في الحقيقة قول بجواز ذلك في الشّريعة لكنّ كلّ وليّ أمر يفعل ما فوّض إليه فكما أنّ وليّ الصّدقات يملك من القبض والصّرف ما لا يملكه والي الخراج وعكسه كذلك والي الحرب ووالي الحكم يفعل كلّ منهما ما اقتضته ولايته الشّرعيّة مع رعاية العدل والتّقيّد بالشّريعة‏.‏

تقسيم

التّعريف

1 - التّقسيم في اللّغة‏:‏ التّجزئة والتّفريق، وهو مصدر قسّم، يقال‏:‏ قسّم الشّيء‏:‏ إذا جزّأه أجزاء، وقسّم القوم‏:‏ فرّقهم ويستعمل الأصوليّون لفظ التّقسيم بمعنى حصر الأوصاف الّتي يظنّ صلاحيّتها علّة في الأصل‏.‏

وقد أطلق الأصوليّون مجموع السّبر والتّقسيم على حصر الأوصاف الموجودة في الأصل - المقيس عليه - وإبطال ما لا يصلح منها للعلّيّة، وتعيين الباقي للعلّيّة، وقد يقتصر على السّبر، وقد يقتصر على التّقسيم كما فعل البيضاويّ في منهاجه‏.‏

قال السّعد في حاشية العضد‏:‏ عند التّحقيق الحصر راجع إلى التّقسيم، والسّبر إلى الإبطال‏.‏

وأطلق بعضهم التّقسيم على كون اللّفظ متردّدا بين أمرين، أحدهما‏:‏ ممنوع، والآخر‏:‏ مسلّم، واللّفظ محتمل لهما غير ظاهر في أحدهما‏.‏

ويراد بالتّقسيم عند الفقهاء تبيين الأقسام، ويرادفه القسمة، وهي تعيين الحصّة الشّائعة بمقياس ما، كالكيل والوزن والذّراع فالقسمة والتّقسيم لفظان مترادفان في المعنى عند الفقهاء‏.‏ واختلف في القسمة، هل هي مجرّد إفراز أو مبادلة‏.‏

والإفراز في اللّغة‏:‏ التّنحية، وهو عزل شيء عن شيء وتمييزه‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن ذلك‏.‏ والصّلة بين التّقسيم والإفراز، أنّ التّقسيم قد يكون بالإفراز، وقد يقصد به بيان الحصص والأقسام دون إفراز كما في المهايأة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

تنقيح المناط‏:‏

2 - التّنقيح في اللّغة‏:‏ التّهذيب والتّمييز، والمناط هو العلّة‏.‏

والمراد بتنقيح المناط عند الأصوليّين، إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق، بأن يقال‏:‏ لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وكذا، وذلك لا مدخل له في الحكم ألبتّة، فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له‏.‏ ومثاله قياس الأمة على العبد في سراية العتق فإنّه لا فرق بينهما إلّا الذّكورة، وهذا الفرق ملغى بالإجماع إذ لا مدخل له في العلّيّة‏.‏

والفرق بين تنقيح المناط والسّبر والتّقسيم، أنّ الحصر في دلالة السّبر والتّقسيم لتعيين العلّة، إمّا استقلالاً أو اعتباراً، وفي تنقيح المناط لتعيين الفارق وإبطاله لا لتعيين العلّة‏.‏

الحكم الإجمالي

أوّلاً‏:‏ عند الأصوليّين‏:‏

3 - يعتبر جمهور الأصوليّين السّبر والتّقسيم مسلكا من مسالك العلّة، ومن العلل الّتي تعرف بواسطة السّبر والتّقسيم قول مجتهد مثلا - في قياس الذّرة على البرّ في الرّبويّة‏:‏ بحثت عن أوصاف البرّ فما وجدت ثَمَّ ما يصلح علّة للرّبويّة في بادئ الرّأي، إلا الطّعم أو القوت أو الكيل، ولكنّ كلّا من الطّعم والقوت لا يصلح لذلك عند التّأمّل، فتعيّن الكيل، وعلى هذا يجري الرّبا في كلّ المقدّرات من مكيلات أو موزونات‏.‏

وقد أنكر بعض أهل الأصول جعل السّبر والتّقسيم مسلكا للعلّيّة‏.‏

قال ابن الأنباريّ في شرح البرهان‏:‏ السّبر يرجع إلى اختيار أوصاف المحلّ وضبطها، والتّقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله منها، فإذا لا يكون من الأدلّة، وإنّما تسامح الأصوليّون في ذلك‏.‏ وللتّوسّع في أدلّة الفريقين، حول حجّيّة السّبر، والتّقسيم، وشروط الاحتجاج به، وأقسامه، وطرق الحذف‏.‏ انظر ‏(‏الملحق الأصوليّ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ عند الفقهاء‏:‏

تقسيم ما يستولي عليه المسلمون‏:‏

4 - إذا ظهر الإمام على بلاد الحرب فالمستولى عليه لا يخلو من أحد أنواع ثلاثة‏:‏ المتاع والأراضي والرّقاب‏.‏

أمّا المتاع فيجب على الإمام تخميسه، وتقسيم الأربعة الأخماس على الغانمين، ولا خيار له فيه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه وَللرَّسُولِ‏}‏ لأنّ اللّه تعالى لمّا جعل لنفسه الخمس فهم منه أنّ الأربعة الأخماس للغانمين لأنّه أضافه إليهم‏.‏

وإن رأى الإمام أن يبيع الجميع ثمّ يقسم الأثمان فذلك له‏.‏

وهناك تفاصيل في كيفيّة تقسيم الخمس تنظر في ‏"‏ غنيمة ‏"‏‏.‏

أمّا الأراضي فيرى جمهور الفقهاء جواز تقسيمها بين الغانمين، لعموم قوله تعالى في الأرضين وغيرها ‏{‏وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَه وَللرَّسُولِ‏}‏ وقد ثبت أنّ

«النّبيّ صلى الله عليه وسلم قسّم أرض بني قريظة وبني النّضير وخيبر بين الغانمين»‏.‏ وذهب المالكيّة على المشهور - وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى أنّ أرض الزّراعة المفتوح بلدها عنوة، ودور الكفّار لا تقسّم، بل تصير وقفا بمجرّد فتح بلدها، ويصرف خراجها في مصالح المسلمين‏.‏

5 -ثمّ اختلف جمهور الفقهاء في اعتبار التّقسيم أمراً ملزماً للإمام أم أنّ له خيارات أخرى‏:‏ فذهب الحنفيّة - وهو قول للمالكيّة - إلى أنّ الإمام إذا فتح بلدة عنوة فهو بالخيار - إن شاء قسّمها بين المسلمين، كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بخيبر، وإن شاء أقرّ أهلها عليها ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق‏.‏

وقال الشّافعيّة - وهو رواية أخرى عن الإمام أحمد - بوجوب تقسيم الأراضي كالمتاع، لإطلاق الآية الكريمة، وعملا بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأرض خيبر‏.‏

ويرى الحنابلة على المذهب تخيير الإمام بين تقسيم الأرض الّتي فتحت عنوة، وبين وقفها بلفظ يحصل به الوقف‏.‏

وأمّا الرّقاب‏:‏ فيخيّر الإمام فيها بين عدّة خصال، وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏أسرى‏)‏‏.‏

تقسيم التّركة

6 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز تقسيم التّركة إذا لم تكن مدينة وأخرجت منها سائر الحقوق المقدّمة على التّقسيم بين الورثة‏.‏

أمّا إذا كانت التّركة مدينة بدين مستغرق لها فيرى الحنفيّة والمالكيّة - وهو رواية عند الحنابلة - عدم جواز تقسيمها، لأنّ الورثة لا يملكونها، إذ الدّين المستغرق يمنع من دخول التّركة في ملك الوارث‏.‏ فلذلك إذا ظهر دين على الميّت بعد تقسيم التّركة بين الورثة بحسب حصصهم الإرثيّة تفسخ القسمة‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة على المذهب إلى أنّ تعلّق الدّين بالتّركة لا يمنع ثبوت الملك فيها للورثة، وإن تصرّفوا في التّركة بالتّقسيم فتصرّفهم صحيح، فإن قضوا الدّين وإلا نقضت تصرّفاتهم كما لو تصرّف السّيّد في العبد الجاني ولم يقض دين الجناية‏.‏

وتنظر التّفاصيل في ‏(‏إرث، وتركة، وقسمة‏)‏‏.‏

تقصير

التّعريف

1 - التّقصير في اللّغة‏:‏ مصدر قصّر‏.‏ يقال‏:‏ قصّر ثوبه‏:‏ إذا جعله قصيراً، وقصّر شعره‏:‏ إذا أخذ منه، وقصّر في الأمر‏:‏ توانى فيه وفرّط‏.‏

وفي الاصطلاح لا يخرج عن هذه المعاني‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّعدّي‏:‏

2 - التّعدّي في اللّغة‏:‏ مجاوزة الشّيء إلى غيره‏.‏ وفي الشّرع‏:‏ إضرار بالغير بغير حقّ‏.‏ والفرق بين التّقصير والتّعدّي أنّ التّقصير من باب التّرك والإهمال، أمّا التّعدّي ففيه عمل وعدوان‏.‏

ب - القصّ‏:‏

3 - القصّ‏:‏ الأخذ من الشّعر بالمقراض خاصّة، والفرق بينه وبين تقصير الشّعر، أنّ التّقصير إزالة الشّعر بأيّ آلة‏.‏

حكمه التّكليفيّ

4 - يختلف حكم التّقصير باختلاف متعلّقه، وبيانه فيما يأتي‏:‏

تقصير الشّعر في الحجّ والعمرة

5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تقصير الشّعر أو حلقه في الحجّ والعمرة نسك يثاب عليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنينَ مُحَلِّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ‏}‏، وخبر‏:‏ «اللّهمّ ارحم المحلّقين، والمقصّرين»‏.‏

وفي قول للشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّه استباحة محظور، فلا يجب بتركه شيء ويحصل التّحلّل بدونه‏.‏

والتّقصير أفضل لمن اعتمر قبل الحجّ في وقت لو حلق فيه جاء يوم النّحر ولم ينبت له شعر، ليكون الحلق للحجّ‏.‏ وهو غير مشروع للمرأة، لما في الحلق من المثلة في حقّها‏.‏

أمّا هل هو ركن في الحجّ والعمرة، فلا يجبر بالدّم، أو واجب فيجبر بالدّم، وقدر التّقصير من الشّعر، وآراء الفقهاء في ذلك، فيرجع في تفصيله إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏تحلّل، وحلق‏)‏‏.‏

التّقصير في حفظ ما اؤتمن عليه

6 - التّقصير يوجب الضّمان فيما لا ضمان فيه من المعاملات، كالوديعة، والوكالة، والرّهن، والمساقاة، والمضاربة، والإجارة، لأنّ المقصّر متسبّب في تلفها بترك ما وجب عليه في حفظها وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء‏.‏

والتّقصير الموجب للضّمان هو ما يعدّه النّاس تقصيرا عرفا في حفظ مثل نوع الأمانة‏.‏ ويختلف التّقصير باختلاف طبيعة الأمر المقصّر فيه، ويذكر الفقهاء أمثلة للتّقصير في أبوابها المختلفة فليرجع إليها‏.‏

تقصير الحاكم في حكمه

7 - إذا قصّر الحاكم في النّظر في مستند حكمه، كأن يحكم بجلد إنسان أو قطعه أو قتله بشهادة شهود، فجلد أو قتل أو قطع، فبان الشّهود غير أهل للشّهادة‏:‏ كأن بانا كافرين، أو فاسقين، أو صبيّين، ضمن الحاكم إذا ثبت أنّه لم يبحث حالة الشّهود، أو قصّر في البحث، لأنّه متسبّب في التّلف، وإلى هذا ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الحاكم لا يضمن ما تلف بحكمه‏.‏ أمّا هل يضمن من ماله الخاصّ، أو تتحمّل عنه العاقلة أو بيت المال، فيرجع في تفصيله إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏ضمان‏)‏‏.‏

تقصير الطّبيب

8 - يضمن الطّبيب إذا عالج المريض فقصّر في معالجته، أو أخطأ فيها خطأ فاحشاً، وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‏.‏

تقصير الإزار

9 - تقصير الإزار إلى الكعبين واجب إذا خيف تنجّسه، ومحرّم إسباله للخيلاء، فقد جاء في الأثر «من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة» وفيما عدا ذلك فإنّ تقصيره مستحبّ إلى نصف السّاق، ولا يستحبّ أكثر من ذلك‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏إسبال‏)‏‏.‏

تقصير الصّلاة

10 - ينبغي تقصير صلاة الجماعة للإمام الّذي يخشى فتنة من وراءه، أو ضررهم بالتّطويل لحديث‏:‏ «يا معاذ‏:‏ أفتّان أنت‏؟‏» ولحديث‏:‏ «من أمّ بالنّاس فليتجوّز، فإنّ خلفه الضّعيف والكبير وذا الحاجة» وهذا ما لم يكن مَنْ وراءه محصورين يرضون بالتّطويل‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح إمامة ‏(‏6 213‏)‏‏.‏

تقصير خطبة الجمعة

11 - يستحبّ تقصير خطبة الجمعة، وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء، لما روي من أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ طول صلاة الرّجل وقصر خطبته مئنّة في فقهه، فأطيلوا الصّلاة وأقصروا الخطبة»‏.‏

التّقصير في طلب الشّفعة أو أرش العيب

12 - يسقط حقّ الشّفعة والرّدّ بالعيب بالتّقصير في المطالبة بهما، وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء‏.‏ أمّا هل طلب الشّفعة فوريّ، أو على التّراخي، وآراء الفقهاء في ذلك، فيرجع إلى مصطلحي‏:‏ ‏(‏الرّدّ بالعيب، والشّفعة‏)‏‏.‏

تقلّد

التّعريف

1 - التّقلّد‏:‏ جعل الإنسان القلادة في عنقه‏.‏ وتقلّد الأمر‏:‏ احتماله، وكذلك تقلّد السّيف‏:‏ إذا جعل حمائله في عنقه‏.‏ قال الشّاعر‏:‏ يا ليت زوجك قد غدا متقلّداً سيفاً ورمحاً أي‏:‏ وحاملا رمحا‏.‏ يعني أنّ التّقلّد في الأصل للسّيف لا للرّمح، وإنّما عطف على مثال قولهم‏:‏ علفتها تبنا وماء بارداً‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - التّقلّد بمعنى وضع القلادة في العنق‏:‏

التّزيّن بالقلائد نوع من الزّينة المباحة، وهي في الغالب المعتاد من زينة النّساء والصّغار‏.‏ وتباح للنّساء القلائد كلّها، سواء أكانت من موادّ معتادة، أو موادّ ثمينة، كاللّؤلؤ، والياقوت، والحجارة الكريمة، والذّهب، والفضّة، وغير ذلك، فكلّه مباح لهنّ ما لم يخرج إلى حدّ السّرف والخيلاء‏.‏ ولا يجوز تقليد الصّغار إن كانوا ذكورا قلائد الذّهب أو الفضّة، لما في الحديث‏:‏ «الذّهب والحرير حلّ لإناث أمّتي وحرام على ذكورها» على أنّ في ذلك بعض الخلاف وينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏ذهب‏)‏‏.‏

وقد ورد في الحديث عن أسماء بنت يزيد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أيّما امرأة تقلّدت قلادة من ذهب قلّدت في عنقها مثله من النّار يوم القيامة» وفي حديث معاوية‏:‏

«نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن لبس الذّهب إلا مقطّعاً» لكن قال الخطّابيّ‏:‏ ذلك في الزّمان الأوّل ثمّ نسخ، أو الوعيد على الكثير منه الّذي لا تؤدّى زكاته‏.‏

تقلّد السّيف في الإحرام

3 - إذا احتاج المحرم إلى تقلّد السّلاح في الإحرام فله ذلك، وبهذا قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن المنذر، ورويت كراهة ذلك عن الحسن البصريّ‏.‏ واستدلّ للأوّلين «بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا صالح أهل مكّة صلح الحديبية، كان في الصّلح ألا يدخل المسلمون مكّة إلا بجلبّان السّلاح» ‏"‏ القراب بما فيه ‏"‏ وهذا ظاهر في إباحته عند الحاجة، لأنّهم كانوا لا يأمنون أهل مكّة أن ينقضوا العهد ويخفروا الذّمّة، فاشترطوا حمل السّلاح في قرابه‏.‏ فأمّا من غير خوف، فقد قال الإمام أحمد‏:‏ لا، إلا من ضرورة‏.‏

وإنّما منع منه لأنّ ابن عمر قال‏:‏ لا يحمل السّلاح في الحرم‏.‏ أي لا من أجل الإحرام، فيكره حمله للمحرم وغيره في حرم مكّة‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ولذلك لو حمل قربة في عنقه لا يحرم عليه ذلك ولا فدية فيه‏.‏ وقد سئل أحمد عن المحرم يلقي جرابه في رقبته كهيئة القربة، فقال‏:‏ أرجو أن لا يكون به بأس‏.‏

تقليد

التّعريف

1 - التّقليد لغة‏:‏ مصدر قلّد، أي جعل الشّيء في عنق غيره مع الإحاطة به‏.‏

وتقول‏:‏ قلّدت الجارية‏:‏ إذا جعلت في عنقها القلادة، فتقلّدتها هي، وقلّدت الرّجل السّيف فتقلّده‏:‏ إذا جعل حمائله في عنقه‏.‏ وأصل القلد، كما في لسان العرب، ليّ الشّيء على الشّيء، نحو ليّ الحديدة الدّقيقة على مثلها، ومنه‏:‏ سوار مقلود‏.‏

وفي التّهذيب‏:‏ تقليد البدنة أن يجعل في عنقها عروة مزادة،أو حلق نعل، فيعلم أنّها هدي‏.‏ وقلّد فلاناً الأمر إيّاه‏.‏ ومنه تقليد الولاة الأعمال‏.‏

ويستعمل التّقليد في العصور المتأخّرة بمعنى المحاكاة في الفعل، وبمعنى التّزييف، أي صناعة شيء طبقا للأصل المقلّد‏.‏ وكلا المعنيين مأخوذ من التّقليد للمجتهدين، لأنّ المقلّد يفعل مثل فعل المقلّد دون أن يدري وجهه‏.‏ والأمر التّقليديّ ما يفعل اتّباعا لما كان قبل، لا بناء على فكر الفاعل نفسه، وخلافه الأمر المبتدع‏.‏

ويرد التّقليد في الاصطلاح الشّرعيّ بأربعة معان‏:‏

أوّلها‏:‏ تقليد الوالي أو القاضي ونحوهما، أي توليتهما العمل، وينظر في مصطلح‏:‏

‏(‏تولية‏)‏‏.‏

ثانيها‏:‏ تقليد الهدي بجعل شيء في رقبته ليعلم أنّه هدي‏.‏

ثالثها‏:‏ تقليد التّمائم ونحوها‏.‏

رابعها‏:‏ التّقليد في الدّين وهو الأخذ فيه بقول الغير مع عدم معرفة دليله‏.‏ أو هو العمل بقول الغير من غير حجّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الإشعار‏:‏

2 - الإشعار حزّ سنام البدنة حتّى يسيل منها الدّم ليعلم أنّها هدي للكعبة فلا يتعرّض لها أحد‏.‏

أحكام التّقليد

أوّلاً‏:‏ تقليد الهدي

3 - الهدي ما يهدى إلى الكعبة من بهيمة الأنعام في الحجّ ليذبح بمكّة تقرّباً إلى اللّه تعالى‏.‏ وتقليد البهيمة أن يجعل في عنقها ما يدلّ على أنّها هديّة إلى البيت، فيترك التّعرّض لها من كلّ أحد تعظيما للبيت وما أهدي إليه‏.‏

وأصل ذلك في القرآن العظيم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَديَ وَلا القَلائِدَ‏}‏ قال القرطبيّ‏:‏ فالشّعائر‏:‏ جمع شعيرة وهي البدنة تهدى إلى البيت، وإشعارها أن يحزّ سنامها ليسيل منها الدّم فيعلم أنّها هدي‏.‏

والقلائد قيل في تفسيرها‏:‏ ما كان النّاس يتقلّدونه أمنة لهم‏.‏ قال ابن عبّاس‏:‏ ثمّ نسخ ذلك‏.‏ وقيل المراد بالقلائد‏:‏ ما يعلّق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة على أنّه للّه تعالى، من نعل أو غيره‏.‏ وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البيتَ الحَرَامَ قِيَامَاً لِلنَّاسِ وَالشَّهرَ الحَرَامَ وَالهَديَ وَالقَلائِدَ ذلكَ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَواتِ وما في الأرضِ وأنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ‏}‏ أي جعل المذكورات صلاحا ومعاشا يأمن النّاس فيها وبها‏.‏ وقال القرطبيّ‏:‏ عظّم اللّه سبحانه في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، وعظّم بينهم حرمته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميّا بالكون فيه‏.‏ وكذلك الأشهر الحرم‏.‏ ثمّ قال‏:‏ وشرع على ألسنة الرّسل الكرام الهدي والقلائد، فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما أو علّقوا عليه نعلا، أو فعل الرّجل ذلك بنفسه من التّقليد، لم يروّعه أحد حيث لقيه، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه وظلمه، حتّى جاء اللّه بالإسلام‏.‏

ويذكر من حكمة تقليد الهدي أيضاً أن يعلم المساكين بالهدي، فيجتمعوا له، وإذا عطبت الهديّة الّتي سيقت إلى البيت تنحر، ثمّ «تلقى قلادتها في دمها» كما ورد في الحديث، ليكون ذلك دالا على كونها هدياً يباح أكله لمن شاء‏.‏

حكم تقليد الهدي

4 - تقليد الهدي كان متّبعاً في الجاهليّة‏.‏ قال القرطبيّ‏:‏ وهي سنّة إبراهيميّة بقيت في الجاهليّة وأقرّها الإسلام‏.‏ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّي لبّدت رأسي، وقلّدت هديي، فلا أحلّ حتّى أنحر» فتقليد الهدي سنّة في الجملة‏.‏ وهذا متّفق عليه‏.‏

وقد قال الشّافعيّ‏:‏ من ترك الإشعار والتّقليد فلا شيء عليه‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ والأولى تقديم التّقليد على الإشعار لأنّه السّنّة، والحكمة فيه أنّه يفعل كذلك خوفاً من نفارها لو أشعرت أولاً‏.‏

وعند الشّافعيّة في ذلك وجهان، ومنصوص الشّافعيّ في الأمّ تقديم الإشعار‏.‏

ما يقلّد من الهدي وما لا يقلّد

5 - لا خلاف في أنّ من السّنّة تقليد الهدي إن كان من الإبل أو البقر‏.‏

أمّا الغنم فقد اختلف في تقليدها، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّها لا تقلّد، وليس تقليدها سنّة، قال الحنفيّة‏:‏ لأنّه غير معتاد، ولأنّه لا فائدة في تقليدها، إذ فائدة التّقليد عدم ضياع الهدي، والغنم لا تترك بل يكون معها صاحبها‏.‏

قال القرطبيّ وكأنّهم لم يبلغهم حديث عائشة رضي الله عنها في تقليد الغنم، ونصّه، قالت‏:‏ «أهدى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة إلى البيت غنماً فقلّدها» أو بلغهم ولكنّهم ردّوه لانفراد الأسود به عن عائشة‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يسنّ تقليدها أيضا، للحديث السّابق، ولأنّها هدي فتقلّد، كالإبل‏.‏ وينصّ الحنفيّة على أنّه ليست كلّ أنواع الهدي تقلّد، بل يقلّد هدي التّطوّع وهدي التّمتّع والقران، لأنّه دم نسك، وفي التّقليد إظهاره وتشهيره فيليق به‏.‏

ولم نجد هذا التّفصيل لغير الحنفيّة‏.‏

ولا يقلّد دم الجناية، لأنّ سترها أليق، ويلحق بها دم الإحصار، لأنّها دم يجبر به النّقص‏.‏

ما يقلّد به، وكيفيّة التّقليد

6 - يكون التّقليد بأن يجعل في أعناق الهدايا النّعال، أو آذان القرب وعراها، أو علاقة إداوة، أو لحاء شجرة، أو نحو ذلك‏.‏ وفي حديث عائشة أنّها «كانت تفتل قلائد هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عهن» والعهن‏:‏ الصّوف المصبوغ فقد روى أبو هريرة

«أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة، قال‏:‏ اركبها‏.‏ قال‏:‏ إنّها بدنة‏.‏ قال‏:‏ اركبها قال‏:‏ فلقد رأيته يساير النّبيّ صلى الله عليه وسلم والنّعل في عنقها»‏.‏ وفيه أنّه «قلّد بدنه بيده» وفي التّاج والإكليل من كتب المالكيّة يقلّد بما شاء‏.‏ ومنع ابن القاسم تقليد الأوتار‏"‏ أي للحديث الوارد في النّهي عنه،ونصّه «قلّدوا الخيل ولا تقلّدوها الأوتار»‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ كيفيّة التّقليد أن يفتل خيطا من صوف أو شعر ويربط به نعلا أو عروة مزادة، وهي السّفرة من جلد، أو لحاء شجرة أي قشرها، أو نحو ذلك ممّا يكون علامة على أنّه هدي‏.‏

وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ يكون تقليدها وهي مستقبلة القبلة، ويقلّد البدنة وهي باركة‏.‏ وفي كتب الشّافعيّة‏:‏ أنّه ينبغي إذا قلّد نعلين أن يكون لهما قيمة ليتصدّق بهما‏.‏

تقليد الهدي هل يكون به الإنسان محرماً‏؟‏

7 - لا ينعقد الإحرام إلا بنيّة الدّخول في النّسك‏.‏ ولا يشترط مع ذلك تلبية أو ذكر معيّن أو خصوصيّة من خصوصيّات الإحرام كتقليد الهدي‏.‏ وهذا مذهب المالكيّة على المشهور عندهم والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وينظر التّفصيل في مصطلح ‏(‏إحرام‏)‏‏.‏

أمّا الحنفيّة فلا بدّ ليكون الرّجل محرما عندهم، مع نيّة الدّخول في النّسك من ذكر أو خصوصيّة من خصوصيّات الإحرام‏.‏

والخصوصيّات منها‏:‏ أن يشعر بدنه، أو يقلّدها، تطوّعاً، أو نذراً، أو جزاء صيد، أو شيئا من الأشياء، ويتوجّه معها يريد الحجّ أو العمرة‏.‏ فمن فعل ذلك فقد أحرم ولو لم يكن منه تلبية‏.‏ قالوا‏:‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «من قلّد بدنه فقد أحرم»‏.‏

ولأنّ سوق الهدي في معنى التّلبية في إظهار الإجابة، لأنّه لا يفعله إلا مريد الحجّ أو العمرة، وإظهار الإجابة قد يكون بالفعل كما يكون بالقول، فيصير به محرماً لاتّصال النّيّة بفعل هو من خصائص الإحرام‏.‏

ولو قلّد هدياً دون أن ينوي، أو دون أن يسوقه متوجّها إلى البيت، فلا يكون محرماً‏.‏

ولو قلّده وأرسل به ولم يسقه لم يصر محرماً، لحديث عائشة أنّها قالت‏:‏ «كنت أفتل القلائد لهدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيبعث به ثمّ يقيم فيناً حلالاً»، قالوا‏:‏ ثمّ إن توجّه بعد ذلك لم يصر محرما حتّى يلحق الهدي، لأنّه عند التّوجّه إذا لم يكن بين يديه هدي يسوقه لم يوجد منه إلّا مجرّد النّيّة، فلا يصير بها محرماً، إلا هدي التّمتّع والقران فإنّه يكون محرما بتقليده وبالتّوجّه ولو قبل أن يدرك الهدي الّذي بعثه أمامه‏.‏

هذا، وإن كان الهدي الّذي قلّده وساقه من الغنم، فإنّه لا يصير بذلك محرما عند الحنفيّة، لأنّ الغنم لا يسنّ تقليدها عندهم كما تقدّم‏.‏

تعيّن الهدي ولزومه بالتّقليد

8 - ينصّ المالكيّة على أنّ الرّجل إذا قلّد الهدي بالنّيّة تعيّن عليه إهداؤه وليس له أن يترك ذلك‏.‏ قال الدّردير‏:‏ يجب إنفاذ ما قلّد معيبا لوجوبه بالتّقليد وإن لم يجزه‏.‏ أي وإن لم يجزئه عن هدي واجب بتمتّع أو قران أو نذر غير أنّهم قالوا‏:‏ إنّ ما قلّد من الهدي يباع في الدّيون السّابقة ما لم يذبح، ولا يباع في الدّيون اللاحقة‏.‏ قالوا‏:‏ ولو وجد الهدي المسروق أو الضّالّ بعد نحر بدله نحر الموجود أيضا إن قلّد، لتعيّنه بالتّقليد‏.‏

وإن وجد الضّالّ قبل نحر البدل نحرهما معا إن قلّدا لتعيّنهما بالتّقليد‏.‏ وإن لم يكونا مقلّدين أو كان المقلّد أحدهما دون الآخر، يتعيّن المقلّد‏.‏ وجاز بيع الآخر والتّصرّف فيه‏.‏

وينصّ الحنابلة أيضا على أنّ التّقليد يجب به ذلك الهدي، إذا نوى أنّه هدي، ولو لم يقل بلسانه إنّه هدي، فيتعيّن بذلك ويصير واجبا معيّنا يتعلّق الوجوب بعينه دون ذمّة صاحبه‏.‏ وحكمه حينئذ أن يكون في يد صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محلّه، فإن تلف أو سرق أو ضلّ بغير تفريط لم يلزمه شيء‏.‏ أمّا الشّافعيّة فيصرّحون بأنّ تقليد الرّجل نعمه وإشعارها لا يكون به النّعم هديا، ولو نواه ما لم ينطق بذلك، على المذهب الصّحيح المشهور عندهم، كما لو كتب الوقف على باب داره‏.‏

ثانياً‏:‏ تقليد التّمائم وما يتعوّذ به

9 - المراد بتقليد التّمائم والتّعويذات جعلها في عنق الصّبيّ أو الصّبيّة أو الدّابّة ونحوها‏.‏ كانوا يعتقدون أنّها تجلب الخير أو تدفع الأذى والعين‏.‏

وينظر حكم ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏تعويذة‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ تقليد المجتهد

10 - التّقليد قبول قول الغير من غير حجّة، كأخذ العامّيّ من المجتهد فالرّجوع إلى قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليس تقليداً، والرّجوع إلى الإجماع ليس تقليدا كذلك، لأنّ ذلك رجوع إلى ما هو الحجّة في نفسه ‏.‏

حكم التّقليد

11 - أهل التّقليد ليسوا طبقة من طبقات الفقهاء، فالمقلّد ليس فقيها، فإنّ الفقه ممدوح في كلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم والتّقليد مذموم، وهو في الحقيقة نوع من التّقصير‏.‏

أ - حكم التّقليد في العقائد‏:‏

12 - التّقليد لا يجوز عند جمهور الأصوليّين في العقائد، كوجود اللّه تعالى ووحدانيّته ووجوب إفراده بالعبادة، ومعرفة صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فلا بدّ في ذلك عندهم من النّظر الصّحيح والتّفكّر والتّدبّر المؤدّي إلى العلم وإلى طمأنينة القلب،ومعرفة أدلّة ذلك‏.‏ وممّا يحتجّ به لذلك أنّ اللّه تعالى ذمّ التّقليد في العقيدة بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ قَالوا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثَارِهمْ مُهْتَدونَ‏}‏، ولمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرضِ وَاخْتِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ‏}‏ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد نزلت عليّ اللّيلة آية‏.‏ ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها»‏.‏

ولأنّ المقلّد في ذلك يجوز الخطأ على مقلّده، ويجوز عليه أن يكون كاذبا في إخباره، ولا يكفي التّعويل في ذلك على سكون النّفس إلى صدق المقلّد، إذ ما الفرق بين ذلك وبين سكون أنفس النّصارى واليهود والمشركين الّذين قلّدوا أسلافهم وسكنت قلوبهم إلى ما كان عليه آباؤهم من قبل، فعاب اللّه عليهم ذلك‏.‏

وذهب بعض الفقهاء إلى جواز الاكتفاء بالتّقليد في العقائد، ونسب ذلك إلى الظّاهريّة‏.‏

ثمّ عند الجمهور يلحق بالعقائد في هذا الأمر كلّ ما علم من الدّين بالضّرورة، فلا تقليد فيه، لأنّ العلم به يحصل بالتّواتر والإجماع، ومن ذلك الأخذ بأركان الإسلام الخمسة‏.‏

ب - حكم التّقليد في الفروع‏:‏

13 - اختلف في التّقليد في الأحكام الشّرعيّة العمليّة غير ما تقدّم ذكره على رأيين‏:‏

الأوّل‏:‏ جواز التّقليد فيها وهو رأي جمهور الأصوليّين، قالوا‏:‏ لأنّ المجتهد فيها إمّا مصيب وإمّا مخطئ مثاب غير آثم، فجاز التّقليد فيها، بل وجب على العامّيّ ذلك، لأنّه مكلّف بالعمل بأحكام الشّريعة، وقد يكون في الأدلّة عليها خفاء يحوج إلى النّظر والاجتهاد، وتكليف العوّام رتبة الاجتهاد يؤدّي إلى انقطاع الحرث والنّسل، وتعطيل الحرف والصّنائع، فيؤدّي إلى الخراب، ولأنّ الصّحابة رضي الله عنهم كان يفتي بعضهم بعضاً، ويفتون غيرهم، ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد‏.‏ وقد أمر اللّه تعالى بسؤال العلماء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُم لا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

الثّاني‏:‏ إنّ التّقليد محرّم لا يجوز‏.‏ قال بذلك ابن عبد البرّ، وابن القيّم، والشّوكانيّ، وغيرهم‏.‏ واحتجّوا بأنّ اللّه تعالى ذمّ التّقليد بقوله‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهم وَرُهْبَانَهم أَرْبَاباً مِنْ دونِ اللَّهِ‏}‏ وقوله ‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنا فَأَضَلُّونا السَّبيلا‏}‏ ونحو ذلك من الآيات، وإنّ الأئمّة قد نهوا عن تقليدهم، قال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ لا يحلّ لأحد أن يقول بقولنا حتّى يعلم من أين قلناه‏.‏

وقال المزنيّ في أوّل مختصره‏:‏ اختصرت هذا من علم الشّافعيّ، ومن معنى قوله مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه وقال أحمد‏:‏ لا تقلّدني، ولا تقلّد مالكا ولا الثّوريّ، ولا الأوزاعيّ، وخذ من حيث أخذوا‏.‏

وفي بعض كلام ابن القيّم أنّ التّقليد الّذي يرى امتناعه هو ‏"‏ اتّخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشّارع لا يلتفت إلى قول سواه، بل لا إلى نصوص الشّارع، إلا إذا وافقت نصوص قوله‏.‏ قال فهذا هو التّقليد الّذي أجمعت الأمّة على أنّه محرّم في دين اللّه، ولم يظهر في الأمّة إلّا بعد انقراض القرون الفاضلة ‏"‏‏.‏

وأثبت ابن القيّم والشّوكانيّ فوق التّقليد مرتبة أقلّ من الاجتهاد، هي مرتبة الاتّباع، وحقيقتها الأخذ بقول الغير مع معرفة دليله، على حدّ ما ورد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ‏"‏ لا يحلّ لأحد أن يقول مقالتنا حتّى يعلم من أين قلنا ‏"‏‏.‏

غير أنّ التّقليد يجوز عند الضّرورة‏.‏ ومن ذلك إذا لم يظفر العالم بنصّ من الكتاب أو السّنّة، ولم يجد إلّا قول من هو أعلم منه، فيقلّده‏.‏

أمّا التّقليد المحرّم فهو أن يكون العالم متمكّناً من معرفة الحقّ بدليله، ثمّ مع ذلك يعدل إلى التّقليد، فهو كمن يعدل إلى الميتة مع قدرته على المذكّى‏.‏

والتّقليد إنّما هو لمن لم يكن قادرا على الاجتهاد، أو كان قادرا عليه لكن لم يجد الوقت لذلك، فهي حال ضرورة كما قال ابن القيّم‏.‏

وقد أفتى الإمام أحمد بقول الشّافعيّ، وقال‏:‏ إذا سئلت عن مسألة لم أعرف فيها خبراً أفتيت فيها بقول الشّافعيّ، لأنّه إمام عالم من قريش، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا تسبّوا قريشاً، فإنّ عالمها يملأ طباق الأرض علماً»‏.‏

شروط من يجوز تقليده

14 - لا يجوز للعامّيّ أن يستفتي إلّا من يعرفه بالعلم والعدالة، أمّا من عرفه بالجهل فلا يسأله اتّفاقا، وكذا لا يسأل من عرفه بالفسق‏.‏

ويجوز أن يستفتي من غلب على ظنّه أنّه من أهل العلم، لما يراه من انتصابه للفتيا وأخذ النّاس عنه بمشهد من أهل العلم، وما يلمحه فيه من سمات أهل العلم والدّين والسّتر، أو يخبره بذلك ثقة‏.‏ قال ابن تيميّة‏:‏ لا يجوز أن يستفتى إلا من يفتي بعلم وعدل‏.‏

أمّا مجهول الحال في العلم فلا يجوز تقليده إذ قد يكون أجهل من السّائل‏.‏

وأمّا مجهول الحال في العدالة فقد قيل‏:‏ لا بدّ من السّؤال عنه من عدل أو عدلين لأنّه لا يأمن كذبه وتدليسه، وقيل‏:‏ لا يلزم السّؤال عن العدالة، لأنّ الأصل في العلماء العدالة‏.‏ ولا يقلّد متساهلاً في الفتيا، ولا من يبتغي الحيل المحرّمة، ولا من يذهب إلى الأقوال الشّاذّة الّتي ينكرها الجمهور من العلماء‏.‏

من يجوز له التّقليد

15 - تقدّم أنّ الّذي يجوز له التّقليد هو العامّيّ ومن على شاكلته من غير القادرين على الاجتهاد‏.‏ وكذلك من له أهليّة الاجتهاد إذا استشعر الفوات لو اشتغل بالاجتهاد في الأحكام، فله أن يقلّد مجتهداً‏.‏ فأمّا المجتهد لو أراد التّقليد مع سعة الوقت وإمكان الاجتهاد فقد قال الإمام الشّافعيّ وغيره‏:‏ ليس له أن يقلّد بل عليه أن يجتهد‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز له التّقليد‏.‏ ودليل القول بأنّ الاجتهاد يجب عليه أنّ اجتهاده في حقّ نفسه يضاهي النّصّ، فلا يعدل عن الاجتهاد عند إمكانه، كما لا يعدل عن النّصّ إلى القياس‏.‏

أمّا إن اجتهد من هو أهل للاجتهاد، فأدّاه اجتهاده إلى معرفة الحكم، فليس له أن يتركه ويصير إلى العمل أو الإفتاء بقول غيره تقليدا لمن خالفه في ذلك، قال صاحب مسلّم الثّبوت‏:‏ ‏"‏ إجماعا ‏"‏ أي بإجماع أئمّة الحنفيّة، لأنّ ما علمه هو حكم اللّه في حقّه فلا يتركه لقول أحد‏.‏ ولكن لو أنّ القاضي المجتهد حكم بالتّقليد نفذ حكمه عند أبي حنيفة على رواية، ولم ينفذ على الرّواية الأخرى، ولا على قول الصّاحبين والفتوى على قولهما، وهي الرّواية الأخرى عن أبي حنيفة‏.‏

والّذين قالوا بتجزّؤ الاجتهاد يجب عندهم على المجتهد المطلق أن يقلّد فيما لم يظهر له حكم الشّرع فيه، فيكون مجتهدا في البعض مقلّدا في البعض الآخر، ولكن قيل‏:‏ إنّه ما دام عالما فلا يقلّد إلّا بشرط أن يتبيّن له وجه الصّحّة، بأن يظهره له المجتهد الآخر‏.‏

وأيضاً قد يقلّد العالم في الثّبوت، كمن قلّد البخاريّ في تصحيح الحديث، ثمّ يجتهد في الدّلالة أو القياس أو دفع التّعارض بناء على ما ثبت عند غيره‏.‏

تعدّد المفتين واختلافهم على المقلّد

16 - إذا لم يكن في البلد إلّا مفت واحد وجب على المقلّد مراجعته والعمل بما أفتاه به ممّا لا يعلمه‏.‏

وإن تعدّد المفتون وكلّهم أهل، فللمقلّد أن يسأل من شاء منهم، ولا يلزمه مراجعة الأعلم، وذلك لما علم أنّ العوامّ في زمان الصّحابة كانوا يسألون الفاضل والمفضول، ولم يحجر على أحد في سؤال غير أبي بكر وعمر‏.‏ فلا يلزم إلا مراعاة العلم والعدالة‏.‏

لكن إذا تناقض قول عالمين، فأفتاه أحدهما بغير ما أفتاه به الآخر، فإنّه يلزمه الأخذ بقول من يرى في نفسه أنّه الأفضل منهما في علمه ودينه‏.‏ فواجبه التّرجيح بين المقلّدين بالعلم والدّين‏.‏ قال صاحب مطالب أولي النّهى‏:‏ يحرم الحكم والفتيا بقول أو وجه من غير نظر في التّرجيح إجماعا‏.‏ وهذا لأنّ الغلط على الأعلم أبعد ومن الأقلّ علما أقرب‏.‏

وليس للمقلّد أن يجعل نفسه بالخيار يأخذ ما شاء ويترك ما شاء، وخاصّة إذا تتبّع الرّخص ليأخذ بما يهواه بمجرّد التّشهّي‏.‏

وذلك كما أنّ المجتهد واجبه التّرجيح بين الأدلّة وليس له التّخيّر منها اتّفاقا‏.‏

والّذين أجازوا التّخيّر - وهم قلّة - إنّما أجازوه عند عدم إمكان التّرجيح‏.‏ وينظر الخلاف في ذلك والتّفصيل فيه في موضعه من الملحق الأصوليّ، إذ في المسألة خلاف‏.‏

تقليد المذاهب

17 - قال الشّوكانيّ‏:‏ اختلف المجوّزون للتّقليد هل يجب على العامّيّ التزام مذهب معيّن، فقال جماعة‏:‏ يلزمه، واختاره إلكيا الهرّاسيّ‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يلزمه، ورجّحه ابن برهان والنّوويّ، وهو مذهب الحنابلة‏.‏ واستدلّوا بأنّ الصّحابة رضي الله عنهم لم ينكروا على العامّة تقليد بعضهم في بعض المسائل وبعضهم في البعض الآخر‏.‏ وقد كان السّلف يقلّدون من شاءوا قبل ظهور المذاهب‏.‏

وفي المسألة خلاف وتفصيل يرجع إليه في الملحق الأصوليّ‏.‏

والّذين قالوا بأنّه يجب على العامّيّ التزام مذهب معيّن فإنّه يأخذ بعزائمه ورخصه، إلا أن يتبيّن له أنّ غيره أولى بالالتزام منه‏.‏ قال ابن تيميّة‏:‏ وإذا تبيّن له حكم اللّه ورسوله في أمر فلا يعدل عنه، ولا يتبع أحدا في مخالفة حكم اللّه ورسوله، ويجوز له أيضاً الخروج عنه بتقليد سائغ، أي بتقليد عالم من أهل الاجتهاد أفتاه‏.‏

أثر العمل بالتّقليد الصّحيح

18 - من عمل بتقليد صحيح فلا إنكار عليه، لأنّه لا إنكار في المسائل الاجتهاديّة‏.‏ ودعوى الحسبة أيضا لا تدخل فيها، ولذلك فلا يمنعه الحاكم ما فعل‏.‏

وهذا واضح فيما ضرره قاصر على المقلّد نفسه، كمن مسّ فرجه ثمّ صلّى دون أن يتوضّأ‏.‏ لكن لو كان في فعله ضرر يتعدّى إلى غيره، فقد قيل‏:‏ إنّ الحاكم أو المحتسب إن كان يرى حرمة ذلك يجب عليه الاعتراض عليه‏.‏

وليس معنى عدم الإنكار على من عمل بتقليد صحيح ترك البيان له من عالم يرى مرجوحيّة فعله، وكان البيان دأب أهل العلم ولا يزال، فضلا عن الأخذ والرّدّ بينهم فيما يختلفون فيه‏.‏ وقد يخطّئ بعضهم بعضاً، وخاصّة من خالف نصّاً صحيحاً سالماً من المعارضة‏.‏

وهذا واضح على قول أكثر الأصوليّين، وهم القائلون بجواز تخطئة المجتهد في المسائل الاجتهاديّة‏.‏ إلا أنّ هذا البيان يكون مع تمهيد العذر للمخالف من أهل العلم، وحفظ رتبته وإقامة هيبته‏.‏ واللّه أعلم‏.‏ وأيضاً لا تمنع هذه القاعدة الحاكم أن يحكم على مقلّد رفع إليه أمره بما يراه طبقا لاجتهاده، إذ ليس للقاضي أن يقضي بخلاف معتقده‏.‏

إفتاء المقلّد

19 - يشترط في المفتي عند الأئمّة الثّلاثة أن يكون مجتهداً، وليس هذا عند الحنفيّة شرط صحّة ولكنّه شرط أولويّة، تسهيلا على النّاس‏.‏

وصحّح ابن القيّم أنّ إفتاء المقلّد جائز عند الحاجة وعدم وجود العالم المجتهد، وقيّده ابن حمدان - من الحنابلة - بالضّرورة‏.‏ ونقل الشّوكانيّ اشتراط بعض الأصوليّين أن يكون المفتي أهلا للنّظر مطّلعا على مأخذ ما يفتي به وإلا فلا يجوز‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ المفتي يجوز أن يخبر بما سمع إلا أنّه لا يكون مفتيا في تلك الحال وإنّما هو مخبر، فيحتاج أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد فيكون معمولا بخبره لا بفتياه‏.‏ وصحّح الشّوكانيّ أنّ ما يلقيه المقلّد عن مقلّده إلى المستفتي ليس من الفتيا في شيء، وإنّما هو مجرّد نقل قول‏.‏ قال‏:‏ الّذي أعتقده أنّ المفتي المقلّد لا يحلّ له أن يفتي من يسأله عن حكم اللّه وحكم رسوله، أو عن الحقّ، أو عمّا يحلّ له ويحرم عليه، لأنّ المقلّد لا يدري بواحد من هذه الأمور، بل لا يعرفها إلا المجتهد‏.‏

وهذا إن سأله السّائل سؤالا مطلقا‏.‏ وأمّا إن سأله سائل عن قول فلان ورأي فلان فلا بأس بأن ينقل إليه ذلك ويرويه له إن كان عارفا بمذهبه‏.‏

ونقل ابن الصّلاح عن الحليميّ والرّويانيّ من الشّافعيّة أنّه لا يجوز للمفتي أن يفتي بما هو مقلّد فيه، ثمّ قال ابن الصّلاح‏:‏ معناه أنّه لا يجوز له أن يذكّره في صورة ما يقوله من عند نفسه، بل يضيّفه ويحكيه عن إمامه الّذي قلّده‏.‏

قال ابن الصّلاح‏:‏ فعلى هذا من عددناه من أصناف المفتين من المقلّدين ليسوا على الحقيقة من المفتين، ولكنّهم قاموا مقامهم وأدّوا عنهم‏.‏

هل المقلّد من أهل الإجماع‏؟‏

20 - يرى جمهور الأصوليّين أنّ المقلّد لا يعتبر فقيها، ولذا قالوا‏:‏ إنّ رأيه لا يعتدّ به في الإجماع وإن كان عارفا بالمسائل الفقهيّة، إذ الجامع بين أهل الإجماع هو الرّأي، وليس للمقلّد رأي إذ رأيه هو عن رأي إمامه‏.‏

وهذا إن لم يكن مجتهداً في بعض المسائل، فإن كان كذلك فعلى أساس قاعدة جواز تجزّؤ الاجتهاد، يعتدّ بالمقلّد في الإجماع في المسائل الّتي يجتهد فيها‏.‏

قضاء المقلّد

21 - يشترط الشّافعيّة والحنابلة، وهو قول عند كلّ من الحنفيّة والمالكيّة، في القاضي أن يكون مجتهداً‏.‏ وادّعى ابن حزم الإجماع على ذلك، ولقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ احْكُمْ بَينَهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏فَإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيءٍ فَرُدُّوه إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ وفاقد الاجتهاد إنّما يحكم بالتّقليد ولا يعرف الرّدّ إلى ما أنزل اللّه وإلى الرّسول‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ لا يجوز للقاضي أن يقلّد غيره ويحكم بقول سواه، سواء ظهر له الحقّ فخالفه غيره فيه أم لم يظهر له شيء، وسواء ضاق الوقت أم لم يضق‏.‏

وقال سائر الحنفيّة، وهو قول عند متأخّري الحنابلة‏:‏ يجوز أن يكون القاضي مقلّداً، لئلا تتعطّل أحكام النّاس، وعلّل الحنفيّة بأنّ غرض القضاء فصل الخصومات فإذا تحقّق بالتّقليد جاز‏.‏ وعند الشّافعيّة أنّه إن تعذّر القاضي المجتهد جاز تولية المقلّد عند الضّرورة وتتحقّق الضّرورة بأمرين‏:‏

الأوّل‏:‏ أن يولّيه سلطان ذو شوكة، بخلاف نائب السّلطان، كالقاضي الأكبر، فلا تعتبر توليته لقاض مقلّد ضرورة‏.‏ ويحرم على السّلطان تولية غير المجتهد عند وجود المجتهد‏.‏ ثمّ لو زالت الشّوكة انعزل القاضي بزوالها‏.‏

الثّاني‏:‏ أن لا يوجد مجتهد يصلح للقضاء، فإن وجد مجتهد صالح للقضاء لم يجز تولية المقلّد، ولم تنفذ توليته‏.‏ وعلى قاضي الضّرورة أن يراجع العلماء، وهذا موضع اتّفاق، وعليه عند الشّافعيّة أن يذكر مستنده في أحكامه‏.‏

ما يفعله المقلّد إذا تغيّر الاجتهاد

22 - إذا تغيّر اجتهاد المجتهد بعد أن فعل المقلّد طبقاً لما أفتاه به، لم يلزم المقلّد متابعة المقلّد في اجتهاده الثّاني بالنّسبة لتصرّف أمضاه، كما لو تزوّج امرأة بلا وليّ - مثلاً - مقلّدا لمجتهد يرى صحّة النّكاح بلا وليّ، ثمّ تغيّر اجتهاد المجتهد إلى البطلان، وهذا كما لو حكم له حاكم بذلك، إذ لا ينقض الاجتهاد بمثله‏.‏

ولا يلزم المجتهد إذا تغيّر اجتهاده أن يعلم من قلّده بذلك‏.‏

وهذا إن كان الاجتهاد معتبراً، بخلاف ما لو تبيّن خطؤه يقينا، بأن كان مخالفاً لنصّ صحيح سالم من المعارضة، أو مخالفا للإجماع، أو لقياس جليّ، فينقض‏.‏

وقيل بالتّفريق في ذلك بين النّكاح وغيره، ففي النّكاح ينقض وفي غيره لا ينقض‏.‏

أمّا قبل أن يتصرّف المقلّد بناء على الفتيا، فليس له أن يقدم على ذلك التّصرّف بعد تغيّر الاجتهاد إن كانت تلك الفتيا مستنده الوحيد‏.‏

التّقليد في استقبال القبلة ومواقيت الصّلاة ونحو ذلك

23 - من أمكنه معرفة جهة القبلة برؤية أو نحوها دون حرج يلحقه حرم عليه الأخذ بالخبر عنها، وحرم عليه الاجتهاد والتّقليد في ذلك‏.‏

وإلا يمكنه العلم أخذ بخبر ثقة يخبر عن علم، فإن أمكنه ذلك حرم عليه الاجتهاد والتّقليد، وإلا فعليه أن يجتهد في أدلّة القبلة ولا يقلّد، ومن عجز عن الاجتهاد في الأدلّة يقلّد ثقة عارفا بأدلّة القبلة‏.‏ فلو صلّى من غير تقليد معتبر وقد أمكنه أن يقلّد لزمته الإعادة ولو صادفت صلاته القبلة‏.‏ أمّا ما صلّى بالاجتهاد أو التّقليد وصادف القبلة أو لم يتبيّن الحال فلا إعادة عليه‏.‏ وفي المسألة خلاف وتفصيل يرجع إليه تحت عنوان ‏(‏استقبال القبلة‏)‏‏.‏ وقريب من ذلك القول في التّقليد في مواقيت الصّلاة ‏(‏ر‏:‏ أوقات الصّلاة‏)‏‏.‏

أمّا تقليد أهل الخبرة من المنجّمين والحاسبين إذا اجتهدوا في دخول شهر رمضان مثلاً بالنّظر في الحساب فالمشهور أنّه لا يجب الصّوم ولا الفطر بقولهم تقليدا لهم ولا يجوز‏.‏ وقال الرّمليّ من الشّافعيّة‏:‏ يجوز للمنجّم والحاسب أن يعملا بمعرفتهما بل يجب عليهما ذلك، وليس لأحد تقليدهما‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ إنّ لغيره العمل به‏.‏

ولكن عند المالكيّة يجوز التّقليد من الصّائم في الفجر والغروب ولو من قادر على الاجتهاد‏.‏ وفرّقوا بينه وبين القبلة بكثرة الخطأ فيها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏